لم تكن المدارس ولا الثانويات التي درست فيها -في نهاية السبعينات وطيلة الثمانينات- مثالية، ولا كانت مناهجها خارقة. قد تكون أمطرتنا بما تيسر من «المحفوظات»، ولكنها نسيت أن تمدنا بتلك الأدوات السحرية التي تجعلنا نعبر بسلام من أرض الاستظهار الجافة والمتقشفة إلى أرض تدبير المعارف الأكثر خصوبة.. نعبر من مرحلة «الوعاء» الجامد الذي يسكب فيه كل شي إلى عهد «الغربال» الذي يفرز ويصفي، فيحتفظ بما يراه مناسبا ويتخلص من الباقي.. نعبر من كائن يستظهر إلى كائن يحاول أن يفكر.
ومع ذلك، فالتعليم العمومي في ذلك الوقت، ورغم كل عاهاته، كانت تشع منه هيبة غامضة، مثل تلك الهيبة التي تضفيها العائلة على شيخ هدته الخيبات والمرض والسنين، أو عجوز طيبة أصابها الخرف. فقد كان يضمن حدا أدنى من الاختلاط بين مختلف الطبقات الاجتماعية. فكنا نحن أبناء الأحياء الشعبية البسيطة في الدار البيضاء، مثلا، ندرس في الأقسام مع أبناء أسر ميسورة يكون ربها مدير مؤسسة بنكية كبيرة، أو ضابطا في الجيش المغربي، أو محاميا، أو… وكنا، خاصة في الثانوي، نحسدهم على ألبستهم الفاخرة في حصة الرياضة، فنعمد إلى محاولة تمزيق أقمصتهم الرفيعة، أو الدوس على أحذيتهم الرياضية الغالية عند الاحتكاك في مباراة لكرة اليد أو السلة.
ولم يكن التمييز يفرض وجوده الثقيل علينا سوى بعد الباكالوريا، حيث يأخذ هؤلاء في رمي أسماء الجامعات الفرنسية (بو.. إكس أو بروفانس.. نيس.. باريس)، وربما الأمريكية، فوق رؤوسنا نحن الذين كان أقصى ما يمكننا بلوغه هو كلية الطب، وكانت تبدو بعيدة مثل نجمة في عنان السماء.
أما اليوم، فلم يفقد التعليم العمومي هيبته فقط، بل صار، بفعل التخلي المطرد عنه من طرف الحاكمين، مصدرا لتكريس تفاوت طبقي خطير.. لخلق مغربين -أو ربما أكثر- يفصل بينهما برزخ لا يلتقيان أبدا.
إن التخلي المطرد للحاكمين عن التعليم العمومي (نقص في البنايات، نقص في التجهيزات، تدني المستوى، محاولة التملص من المجانية…) في بلد مثل المغرب -مازال يحاول جاهدا الفكاك من براثن التخلف، ولما يبلغْ عتبة الدولة الحديثة في عمقها اقتصاديا وسياسيا وثقافيا- سيفضي، بشكل أوتوماتيكي، إلى خلق نظامين تعليميين مختلفين حد التناقض.
الأول، تعليم عمومي متخلف، لا يساير العصر الذي يتفجر إبداعا في كل المجالات المعرفية، وخاصة التكنولوجيات الحديثة التي أخذت تهدم الحدود بين العالمين «الواقعي» و«الافتراضي».. هذا التعليم، الذي يتسم بالضعف منهجيا وبالاكتظاظ بشريا، سوف «ينتج» كائنات هزيلة معرفيا وتكوينا.. تعليم لا يزرع في التلميذ بذرة الفرد الكامل في فردانيته، بل يحشره منذ سنواته الأولى وسط العشرات مثل الخرفان الخائفة. وهذا سيجعله ينكفئ على نفسه أكثر وينغلق عن محيطها، في «الواقع» وفي «الافتراض» على حد سواء.
الثاني تعليم خصوصي مكلف، ولكنه يتمتع بحد أدنى من الجودة، ويشكل أرضية أولية تكون صالحة لتحويل الكائن المغربي إلى فرد حقيقي قادر على المبادرة وعلى التأثير في جماعته بشكل إيجابي.
وأخشى أنه بعد جيل واحد فقط سيكون لدينا «مغربان» يعيشان على أرض واحدة، ولكن في عالمين مختلفين تماما.. عالمان يفصل بينهما برزخ شاسع.. هوة سحيقة.. عالمان ينظر الواحد منهما إلى الآخر بعداء، ويتحصن كل واحد منهما وراء أسواره وأفكاره المسبقة عن الآخر. وهذه إعاقة أخرى ستنضاف إلى الإعاقات الكثيرة الأخرى التي يعانيها هذا البلد. ولا حاجة لي لكي أبين لك ماذا سيحدث بين هذين المغربين…