إن إلغاء المجانية ورقة فاشلة للدولة للإجهاز وتبضيع التعليم وتسليعه وفتحه على التعليم الخصوصي الذي أصبح الآن بيد مستثمرين يشترون مدارس سابقة ويضعونها في سياق نماذج دولية. بهذا تتنصل الدولة من التزاماتها الاجتماعية تجاه الطبقات الفقيرة.
في السياق التاريخي والقانوني للتعليم الخصوصي:
التعليم الخصوصي امتداد للتعليم الحر الذي ظهر في فترة الحماية، على غرار التعليم العصري الاستعماري المخصص للأجانب. وكان التعليم الحر لا يخضع لمراقبة رسمية ولا لبرامج موحدة، وتشرف عليه الحركة الوطنية، وكان هدفه الحفاظ على الهوية الوطنية والوقوف في وجه الاستعمار، وقد توسع في الثلاثينيات حيث انتقلت المؤسسات من 23 مؤسسة سنة 1933 إلى 105 مؤسسات سنة 1955، وصدرت فيه ظهائر، منها ظهير 14. 10. 1919، الذي حدد شروط فتح وتسيير المؤسسات الخاصة، وظهير 19. 09. 1942 الذي اهتم فقط بالمؤسسات المسماة عصرية، التي يسيرها الأجانب. أما المدارس الحرة المغربية فلم يكن أي نص ينظم فتحها أو تسييرها، لكن سلطات الحماية أصدرت ظهيرا في 01. 04. 1945، يتعلق بتنظيم مؤسسات التعليم المغربي الحر، وتستثنى منه المدارس التي تلقن في برامجها القرآن الكريم.
في بداية الاستقلال، وفي إطار استكمال السيادة الوطنية، صدر الظهير 1. 59. 049 لسد الفراغ القانوني للتعليم الخصوصي، وظل العمل به إلى سنة 1992، السنة التي صدر فيها القانون 15. 86 المصادق عليه سنة 1985، والذي يعتبر أول نص يحدد أنواع التعليم الخاص. وبموازاة هذا القانون صدر قانون 16. 86 المتعلق بالتدابير التشجيعية والرفع من حجم الاستثمارات، لكنه لم يعرف طريقه إلى التطبيق بعد نسخه بالقانون المالي الانتقالي سنة 1996. وتمشيا مع مقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين، صدر قانون 00. 06 بتاريخ 19. 05. 2000 كنظام أساسي للتعليم الخصوصي دون أن يشمل التعليم العالي الخاص والتكوين المهني الخصوصي.
لقد عرف المغرب في الاستقلال توجهات في مجال التربية والتعليم، خاصة مبدأ التعميم، فانتعشت المؤسسات الحرة بعد أن كانت مهمتها سابقا هي الاستقلال، واستفادت من مساعدات الدولة ومن إقبال المواطنين عليها، وأصبحت ذات طابع تجاري. وفي الثمانينيات ستظهر مؤسسات التعليم الأولي ورياض الأطفال بشكلها العصري. وارتبط ذلك بالنمط الجديد للأسرة المغربية، واقتحام المرأة لسوق الشغل، ما تطلب فضاءات للعناية بالأبناء لحظة العمل.
وأصبحت مؤسسات التعليم الابتدائي تغري بوسائل النقل والجودة وعدم الاكتظاظ وتعلم اللغات في مرحلة مبكرة، وأنشطة موازية من موسيقى ومعلوميات، ما لا يتوفر في المؤسسات العمومية. كما لعب هذا التعليم دور “المنقذ من الانقطاع عن الدراسة” بالنسبة للراسبين، وتركز في المدن الرئيسة.
اختلالات التعليم الخصوصي:
منذ 1959، تاريخ إنشاء وزارة التربية الوطنية، انتقل الإشراف على التعليم الخصوصي من “مكتب” تابع للكتابة العامة إلى مصلحة للتعليم الخاص سنة 1964.
وفي المرسوم الصادر في 21 نونبر 1994، أصبحت مديرية التعليم الخاص تضم ثلاثة أقسام وثماني مصالح. وبعد الهيكلة التي عرفتها الوزارة سنة 1998 عهد إلى قسم الارتقاء بالتعليم الخصوصي الإشراف على المراقبة الإدارية، لكن المراقبة التربوية تبقى خاضعة للتأطير التربوي للتعليم العمومي.
وفي إطار المرسوم الصادر في يوليوز 2001، تمت الإشارة فقط إلى الارتقاء بالتعليم الخصوصي، وأسند قانون 00. 07 مهمة الإشراف عليه للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين. هكذا تتقلص المصالح المعنية على مستوى المركز، ويبقى الاقتصار على المراقبة الإدارية، ويصبح التعليم الخصوصي خاضعا لمصالح مختلفة، شأن الأقسام التحضيرية الخاضعة لإشراف المركز الوطني للبحث والتجريب التربوي؛ أما جهويا وإقليميا فغالبا ما يتداخل التعليم الخصوصي بالتعليم الأولي بالامتحانات بمحاربة الأمية، وهذا يعكس غياب رؤية واضحة ومستقبلية.
ورغم التطور الكمي والنوعي للتعليم الخصوصي (انتقل عدد المؤسسات الخصوصية في 2000 من 1103 مؤسسات إلى 2435 سنة 2009، أي بمعدل 133.2 مؤسسة في السنة)، إلا أنه لم يتجاوز نسبة 7.77 في المائة من تلاميذ التعليم العمومي (كان الهدف أن يصل إلى نسبة 20 في المائة سنة 2015)، وظلت مؤسساته تعرف اختلالات مهمة، كعدم التجانس بينها، ومعاناة بعضها من مشاكل في التنظيم والتسيير الإداري والتربوي (استعمال الزمن يعطى للتلاميذ يوميا، فهم لا يعرفون ماذا سيدرسون بعد غد)؛ ثم المعايير الخاصة ببنائها، إذ كانت في الأصل فيلات أو عمارات للسكن، أو مدارس تم الترخيص لها قبل الستينيات (حسب إحصائيات سابقة في 2004: 48 في المائة معدة أصلا للتعليم، و33 في المائة فيلات، و17 في المائة شقق وعمارات، 5 أخرى)؛ مع الإشارة إلى إغلاق عدد منها نتيجة المنافسة والإقبال على المؤسسات المهيكلة.
من الاختلالات أيضا الأسلاك التعليمية المتعددة في المؤسسة الواحدة، من الروض إلى الثانوي وأحيانا التقني والأقسام التحضيرية، إضافة إلى دروس الدعم والتقوية الليلية، دون ترخيص في غياب نص قانوني ينظم ذلك.
وهناك المؤسسات الخاصة، الشبيهة بالإصلاحيات، التي تستقبل تلاميذ “المغادرة القهرية” من التعليم العمومي، الذين يحتاجون إلى بيداغوجية خاصة، وغالبيتهم يبحثون عن شهادة الباكلوريا فقط.
ومن الآفات أيضا التداخل بين مهام المدير التربوي ومدير المؤسسة الذين لم يخضعوا في أغلبهم لتكوين مسبق في التسيير وتدبير المؤسسات، وقد يكونون من المتقاعدين أو المغادرين طوعيا، أو من رجال الأعمال، أو المستثمرين، وأغلبهم لا يملكون شواهد عليا؛ إضافة إلى وضعية الموظفين، من مساعدين وأعوان وسائقين، غير القارة وغير القانونية، وعدم الاهتمام بالجانب الاجتماعي في العلاقة معهم.
من الاختلالات كذلك عدم وضوح العلاقة مع جهاز التفتيش التربوي، والغربة البيداغوجية، والابتعاد عن التوجهات العامة للتعليم المغربي، وغياب التكوين الأساسي، وعدم تفعيل الإجراءات الزجرية للمخالفات المسجلة لتبقى مراقبة دون فاعلية.
وحسب القانون 00.06 فالتعليم الخصوصي ملزم بتلقين المناهج المعمول بها في التعليم العمومي كحد أدنى، وأن يأخذ بعين الاعتبار ملاحظات هيئات التأطير والمراقبة التربوية بالنيابات والأكاديميات.
أما بعد:
إن وجود الفراغ التشريعي والقانوني في الاستثمار الخصوصي، وعدم الخضوع لدفتر التحملات، وغلبة المقاولاتية، يجعل السياسة التعليمية في كف عفريت.
كانت بوصلة التعليم الخصوصي المساهمة في تنمية التعليم والحياة الاجتماعية والاقتصادية وتقديم خدمات تربوية، والمساهمة في التكوين والرفع من الجودة، ثم توفير مناصب الشغل، وكان رهانا في جميع البرامج الإصلاحية السابقة، إذ اعتبره الميثاق الوطني للتربية والتعليم شريكا أساسيا إلى جانب الدولة، مخففا من أعبائها، وليس أبدا بديلا لها، لكن هذا الرهان لم يتحقق، فكان على البرنامج الاستعجالي أن يضع من مهامه تطوير التعليم الخصوصي وإصلاحه والارتقاء به.
فلماذا تم التخلي والإجهاز على الميثاق وعلى الخيارات الوطنية الإستراتيجية التي كانت خارطة الطريق للتعليم؟ ولماذا تتخلى الدولة عن مسؤوليتها؟.
على الأقل التعليم العمومي له منظومة تربوية وإدارية، فأي كارثة تنتظره إذا أصبح خصوصيا، علما أن التعليم الخصوصي لديه “أزمة الشرعية”؟. ونحتفظ بمفهوم “التعليم الحر”، بدلالة الحركة الوطنية، فتعليمنا ليس حرا للأسف، لا في برامجه ولا توجهاته ولا خياراته الوطنية التي دافع عنها المغاربة، ومنها المجانية، وهي من الضمانات التي تربط الدولة بالمجتمع، وخاصة الفئات الفقيرة، وإلغاؤها يطرح “سؤال الدولة” بعمق. أما المجلس الأعلى للتعليم فلا كلام له بعد اليوم، ووجوده كغيابه.