إذا كان المألوف والمعتاد أن يكون موضوع الغزل هو المرأة، فإنه في مجتمع “البيظان الصحراوي” في المغرب، يكون الرجل هو هدف نوع من الغزل يسمى “التبراع”، يدور داخل مجالس نسائية خاصة تمتح من طقوس حميمية خاصة بالنساء الصحراويات على وجه التحديد.
ويختلف الباحثون والمهتمون بشأن أصل لفظة “التبراع”، فهناك من يعتبر أنها تعني التبرع بما يجود به خاطر وإبداع المرأة الحسانية من أشعار عاطفية، ومن يرى أن “التبراع” من البراعة في السبك اللغوي والتعبيري، ومن يعتبر أنه يشير إلى “التبريعة” المشكلة من شطرين بنفس الروي.
وتطلق المرأة الصحراوية عبر شعر “التبراع” مكنوناتها العاطفية والنفسية التي تعتمر في صدرها، دون إعلان هويتها للعموم، بسبب الطابع المحافظ لقبائل ومجتمع الصحراء، وأيضاً لإضفاء مزيد من التشويق والتكهنات حول من تكون “المتبرعة” ومن يكون الرجل “المتبرع عليه” بهذا الشعر النسائي الخاص.
ويتمحور “التبراع” على غزل المرأة الصحراوية في الرجل “المحبوب”، غير أنه غزل يختلف عن الغزل المعروف الرائج، إذ يعرف المتغزل (الرجل) والمتغزل بها (المرأة) بالاسم والصفة في أغلب الأحيان، لكن في المجتمع الصحراوي تبقى صاحبة “التبراع” مجهولة وكذلك الرجل المحظوظ بذلك التغزل.
واهتم باحثون وأكاديميون بـ”التبراع” الصحراوي من خلال تأليف كتب أو دراسات وكتابة مقالات تحاول سبر أغوار هذا الصنف الذي يجمع في الآن نفسه بين ما هو أدبي إبداعي، وبين كل ما هو اجتماعي وعاطفي نسائي، ونفسي أيضاً.
ولعل خاصية “التبراع” أنه يجمع كل هذه التمثلات الشعرية والاجتماعية والنفسية في وقت واحد، وذلك لرمزية المجتمع الصحراوي والمكانة القوية للمرأة داخل تضاريسه، فهي تحظى بمكانة لافتة ومرموقة لا يمكن التغافل عنها، وباتت مع تطور الزمن عنصراً فاعلاً داخل المجتمع الصحراوي المتسم بالدينامية والتحرك.
وكتب الباحث في التراث الحساني الدكتور لغلى بوزيد عن “التبراع”، ووصفه بكونه “دليل فحولة”، فإذا كان الشاعر الفحل في قاموس اللغة هو المتميز المبرز، أو الذي يغلب في الهجاء خصمه إذا هجاه، فإن شعر “التبراع” هو دليل فحولة.
ويشرح بوزيد بأن “التبراع” متميز عن بقية الشعر الحساني المعروف في اصطلاح أهله بـ”لغنَ”، كما أن موضوعه في الأصل هو الحب مثل “شعر العروبيات” بمدينة فاس، علاوة على أن “التبراع” “مملكة خاصة بالنساء، لا يجرؤ على دخول حماها غيرهن”، ثم إنه “عنوان تحدي المرأة للرقابة وسلطة المجتمع”.
وتعد الدكتورة العالية ماء العينين أول من اشتغل على شعر “التبراع” في المغرب منذ سنة 2000 خلال ندوة نظمها معهد الدراسات الأفريقية في الرباط، ثم خصصت للموضوع أطروحة دكتوراه تحت عنوان “الإبداع النسائي في الشعر الحساني.. التبراع نموذجاً” سنة 2009.
وصدر للعالية ماء العينين كتاب بعنوان “التبراع.. نساء على أجنحة الشعر”، خاضت من خلاله (بحكم أصولها الصحراوية العريقة) في خبايا النفس الأنثوية التي تنتج التبراع داخل “مجتمع محافظ تفك فيه المرأة جدائل أحاسيسها وتترجمها بوحاً شعرياً”.
وفي السياق نفسه أصدرت أيضاً أكاديمية المملكة المغربية كتاباً موسوماً بعنوان “Beau Livre” باللغتين العربية والفرنسية، وقرصاً مدمجاً يحمل عنوان “التبراع.. الشعر النسائي الحساني”، جمع من خلاله متون التبريعات من أفواه نساء صحراويات.
تقول في هذا الصدد الدكتورة العالية ماء العينين إن “التبراع” هو شعر نسائي خالص، تبدعه المرأة في فضاء واسع أُطلِقت عليه تاريخياً أسماء كثيرة من أشهرها “تراب البيظان” أي “أرض البيظان”، ويمتد هذا المجال الثقافي من وادي نون شمالاً (المغرب) إلى نهر السنغال جنوباً (موريتانيا) ومن المحيط الأطلسي غرباً إلى مالي شرقاً.
ووفق ماء العينين، يعرف الكاتب الموريتاني أحمد بابا مسكه، التبراع بأنه قصيدة قصيرة من شطرين بالروي نفسه، تعبر بها الفتيات العاشقات عن أحاسيسهن المصادرة اجتماعياً عند ما يكن منفردات، بعيداً من آذان الفضوليين، إذ يحملنها بوحهن الساذج والبعيد من فكرة النشر أو الإعلان عنه، لتتناقله الألسن في إطار من السرية.
هذا التعريف، تردف المتحدثة، حاول أن يحيط بالتبراع في أغلب جوانبه فهو مكون من شطرين، بروي موحد كما يبرز موضوعه الذي يعبر عن العواطف المصادرة اجتماعياً، ثم إنه يشير إلى طقوس السرية التي يبدع وينشد فيها، وتظل قائلته مجهولة على رغم تنقله وشيوعه بين الناس”. وتستطرد العالية بأن “التبراع ارتبط بعواطف المرأة وأحاسيسها خصوصاً في علاقتها بالرجل، ولا يعني ذلك أنه مقتصر على غزل النساء في الرجال، وإن كان ذلك جزءاً أساسياً من موضوعاته”، موردة أنه “لا يمكن تجاهل المضامين الثرية والمتنوعة التي يزخر بها هذا الشعر، والتي تفتح من خلالها المرأة عالمها الخاص على مصراعيه، وتطلق العنان لصوتها الخفي وأحاسيسها اتجاه العالم الخارجي”.
وسردت العالية ماء العينين نماذج من شعر “التبراع”، من قبيل: (سَقْمَكْ ذَ لْفَريدْ / أَلاَّ يَدْرَسْ وَيْعودْ جْديدْ). والمعنى: “حبك الفريد يزداد قوة كلما تقادم في الزمن”، و”زَلْزالْ بْليسُو / يَريشْتَرْ ما گَدْ يْقيسو”، والمعنى (زلزال غوايته استعصى على مقياس ريشتر).
عن الإنديبيندانت عربية