بقلم/أسامة بلوش*
في الإعلانات الإشهارية كثر مانرى علب الكوكاكولا مرتبطة بمباريات كرة القدم أو علب البطاطس، إذ تتم برمجة المتلقي بشكل غير مباشر على أن مشاهدة المباراة دون التلذذ بالكولا أو علبة بطاطس أمر ينقصه شيء! هذه الألية تسمى في علم النفس عند المدرسة السلوكية Behaviorism بالإقتران الشرطي وهي ألية لترويض السلوك وتنميطه ومن الأليات المؤثرة في سلوك الإنسان ألية “الإشراط الإجرائي” التي تقوم على مبدأ كلفة السلوك Cost of Behavior، بحيث يتعلم الفرد أن يرتدع ذاتيا حين يجد أن سلوكه أو ميله أو فكره يتجرأ أو يتطاول على مؤسسة السلطة ويحدث إضطرابا ما. هذه الأليات في الأخير تؤدي دورها وتحقق الغاية منها، ألا وهي قمقمة الفكر وصبه في قالب واحد أمن، لكن هذه الأفكار التي تم تنميطها، وقبل تحقيق هذه الغاية، مامصيرها في ظل إندفاع التابع وردع المتبوع؟ وكيف يحتكر المجتمع الوصاية على الأفراد داخله؟
إن السلطة هنا هي المجتمع بكل مكوناته من أسرة وعائلة ثم مدرسة وإدارة وحكومة..، والفرد هو الذي يقع تحت وطأتها، مكرها، سواء وعى ذلك الإكراه أم لا، في ضغط من الأعلى للأسفل، فالفرد يزداد ويقمط في فراشه تقميطا محكما، يبكي وتسارع الأم لسد فمه بثدييها، فإن سأل للتعلم زجر أو لطم عنفا، وهكذا يبني الفرد تصورا عن كلفة سلوكه، سلوك السؤال أو الشك أو التمرد..، فالفرد داخل الجماعة ” له التقدير والإعتراف إذا أطاع وخضع ووالى، أو أن النبذ والإستبعاد سيكون مصيره”*، والتسلط هنا يأخذ أشكالا مختلفة تقع على مستويات متعددة:
فالطفل والوالدين، والتلميذ والمعلم،والمثقف والسلطة، والموظف والمدير، والزوجة والزوج..
في إستطلاع رأي أجريته على خاصية Story شارك فيه أزيد من 120 شخصا, أجابوا على أسئلته كالتالي:
• هل ترى أن المجتمع يتدخل في حياتك : 83% نعم / 16% لا
• هل توجهك الدراسي كان من إختيارك: 74% نعم / 26% لا
• هل تلقيت عبارة تقلل من جيلك : 73% نعم / 37% لا
• هل لك الجرأة للتعبير عن أرائك بشكل صريح: 56% نعم / 44% لا.
المشاركين كانوا من أعمار ومدن مختلفة من المغرب، وبالتالي أنماط عيش مختلفة؛ نتائج الإستطلاع تظهر لنا حضور المجتمع، كسلطة، في حياة الفرد على مستوياتها المختلفة، من أسلوب العيش مرورا للتوجه الدراسي وحتى الجيل الذي يعتبر الفرد غير مسؤول عن إختياره له! وقد عبر بعض المشاركين بشكل صريح عن صعوبة التعبير عن بعض الأراء المتعلقة بالميول الجنسي أو الإعتقاد الديني، خوفا من رد فعل مؤسسة السلطة.
إن الفرد، وحفاظا على طبيعته الإجتماعية، يتعايش مع هذا الجو القمعي العنيف، إعتمادا على ألية الكبت والإضمار، والتي يعرفها “بيير داكو” على أنها “ألية من أليات اللاشعور تحول دون أن يصل الدافع إلى ساحة الشعور..”* في حين يراه سيغموند فرويد ناتجا عن صراع الهو والأنا والأنا العليا، وبذلك يكون الكبت الملاذ الأمن الذي يطمس دوافع ورغبات الهو الغريزية في إنهزام تام أمام أوامر الأنا التي يمليها عليه الأنا الأعلى كممثل لحضور المجتمع، وذلك بهدف حماية الشخص داخل جماعته من الجزاء الإستنكاري الذي سيطاله في حالة إختل توازن العناصر الثلاتة أو غلب الخصم الذي لم يراهن عليه المجتمع، وفي الجانب الإجتماعي يعد الكبت الألية التي يستنجد بها الفرد لقمع فكرة أو توجه، يشعر أنه منبوذ داخل جماعته، بشكل ذاتي بعدما علم كلفة سلوكه.
يرى غلوم في كتابه “الثقافة وإنتاج الديمقراطية” بأن الثرات هو القوة المركزية المهيمنة على الثقافة العربية: الدين كاعتقاد واجتماع وإيديولوجيا وكطوائف ومذاهب، واللغة والشعر، والسلطة والدولة*. فالتعامل مع المرجعية الثراتية على أساس يقدسها ويمجدها ويزيل عنها كل إمكانية للنقد، بحيث ينظر إليها بوقار وخضوع تام لما تمليه من معايير وقواعد أمرة، سيجعلها منشئة إجتماعية تربي الأجيال القادمة وتنمط فكرهم مايؤدي لتكوين شخصيات وتوجهات موحدة، الأمر الذي يعيق التقدم والنمو الفكري للمجتمع.
إن الهوة الواقعة بين الأجيال هي محرك المشكل المستدام، ومادامت فكرة السلف صالح والخلف طالح تطفو على الوعي الجمعي، فإننا سنبقى أسرى للتقليد، وإذا ما نظرنا إلى تشكيلات الحكومات العربية نلاحظ أن حضور الشباب فيها ضعيف، وهو مايظهر سطوة السلف في منظومة إجتماعية تؤمن، سهوا، أن لها الأهلية الكاملة لتمارس التوجيه والوصاية على جيل الخلف، وأن لهذا الأخير الحق في الإندماج، تحت شرط السير على نفس المنوال وعلى نفس الحال، فجيل السلف يقول(..إنا وجدنا أباءنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون)*، في حين قال الإمام علي:( لا تعلموا أبناءكم على عاداتكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم).
يذهب غوستاف لوبون في كتابه ” سيكولوجية الجماهير” إلى أن الناس تقلد بشكل حيواني وقليل منهم من لايلبي هذه الغريزة، وحسب الكاتب، فإن لكل عصر أناس قليل عددهم يستحدثون البدء المبتدع لكنهم لايبتعدون في الغالب عن المألوف حتى لايضعف تأثيرهم داخل الجماعة؛ هكذا إذن يحتكر المجتمع الدور الإصلاحي-التوجيهي إستنادا لشرعية ثراتية جامدة، تنبد كل مستحدث وتحافظ على القديم بقبضة من حديد، و”من تمنطق فقد تزندق” كما شاع في العصر العباسي.
بهذا يعيش الفرد داخل الجماعة، وبعد تلقي المعايير ورسم الحدود، مشكلا وعيا وهميا، على أنه حقيقة مطلقة، بحيث يكتفي بما قدم له من حيز محتشم من الحرية في التعبير عن الرأي والمعتقد والإختيار والنقد؛ يحيا ويعيش ويموت داخل صندوق، تتدافع داخله المكبوتات تناحرا، و في ظل عالم رقمي، قرب الثقافات وجعل الإحتكاك بها سهلا، وتحت إلحاح ذاتي متردد رغبة في التفريغ عن رواسب متزايدة، ألا يجب أن ننتظر هروبا من عالم الواقع إلى عالم المواقع؟ ولا يخفى الكم الهائل من التنوع والأنماط الحياتية التي يمكن أن نطلع عليها ونحتك بها بضغطة زر! وفي ظل هذا التباين الشاسع، نتيجة التأثر وإكتساب ماهو دخيل على الجماعة، في محاولة لتأسيس معايير أخرى متمردة على التي وضعها السياق العام، يقع المحظور! ألا وهو الصراع الذي يؤدي لمزيد من العنف وبالتالي مزيدا من الكبت والإزدواجية..
* طالب في كلية الحقوق